مقالات

شيبٌ يغزو الرأس: التكنولوجيا وآلام البشرية

في ظلّ الأحداث العالمية المتسارعة، من تطور تكنولوجي مذهل، وحروب لا تهدأ، وعنف متكرر، وصراعات لا تنتهي، يقف الإنسان حائرًا كمن يفتح دفتي كتاب، محاولًا أن يرى صفحة واحدة لطريقٍ معبدٍ بالسلام. إذ يبقى السؤال الملّح: هل نسير بالتكنولوجيا نحو نور الخلاص أم نحو هاوية الاغتراب؟ هل أصبحت التكنولوجيا مخدّرًا ناعمًا، يصرف الشعوب عن آلام الواقع، أم أنها لا تزال تحمل في جوهرها إمكانيات التحرر واليقظة؟ لقد أضحى العقل الباطن متأقلمًا على مشاهد العنف والدمار الواقعة في شتى أنحاء العالم حتى أصبحت مألوفة لديه. وهنا تكمن الخطورة؛ فكيف يمكننا إعادة برمجة وعينا على أن ما يحدث في العالم ليس طبيعيًا، بل وتجاوز حدود اللاطبيعي بكارثية تفوق الاستيعاب؟ هل يجب على المتلقي أن يعيد ترتيب محتواه الرقمي، فيستبدل صور الأشلاء والتشريد، ثم يعود إليها لاحقًا ليدرك من جديد فداحة الألم وحدّته؟ هذه ليست مجرد أسئلة بلاغية أو تعجبيّة، بل هي محاولة لفهم دائرة التبلّد التي تحيط بنا، والاتجاه مجددًا نحو السلام، وإلى حسّ إنساني حيّ لا يتأقلم وقسوة الصراع. وسط هذا الكم الهائل من التكنولوجيا، تتداخل المفارقات. فهي ليست مجرد وسائل تواصل اجتماعي أو أدوات ذكاء اصطناعي أو تقنيات عسكرية فتاكة، بل هي أيضًا بنية تحتية لتشكيل الوعي البشري والتحكم به. فهل من الممكن أن تكون التكنولوجيا أداةً للسلام الشامل، إذا ما نشأنا في بيئة تُعلي من قيمة الإنسان وتنبذ العنف، بما يحقق درجة من المساواة والاعتراف المتبادل بين شعوب العالم أجمع؟ والتي بدورها يجب أن تتكاتف لإيقاف تسرب ما نراه على منصات التواصل من تفاهة إلى حياتنا الواقعية. حينها فقط، يمكن للتكنولوجيا أن تكون جسرًا نحو التكامل العالمي، لا سيفًا مشرعًا في وجه الحقيقة. وفي المقابل، ومن وجهة نظر شخصية، تسهم المشاهدة المطوّلة للفيديوهات القصيرة – بما تحمله من استهلاكٍ مفرط وسرعة مُفرغة من المعنى – في خلق حالة من اللامبالاة، بل وربما حالة من البلادة اللاشعورية.

تسهم المشاهدة المطوّلة للفيديوهات القصيرة – بما تحمله من استهلاكٍ مفرط وسرعة مُفرغة من المعنى – في خلق حالة من اللامبالاة، بل وربما حالة من البلادة اللاشعورية.

هذا الانفصال التدريجي عن الذات والعالم قد يؤدي إلى تآكل العلاقات الاجتماعية، وتراجع المهارات، وكبح المواهب. ولا غرابة في أن تشير دراسات علمية عدّة إلى هذا الأثر الخفيّ الذي تغذيه الخوارزميات المصمّمة بدقّة، للوصول إلى هذا الغرض. فما نعيشه اليوم يمضي في اتجاه مختلف. فمنصات التواصل لم تعد كما عهدناها في السابق فهي تتطور باستمرار، وبشكلٍ مرن، يتماشى وقدرة الفرد على التكيف مع خوارزمياتها. لذلك، لم تعد الهجرة مقصورة على عبور الحدود الجغرافية لمكان يحتضن الوعي والمهارات والقدرات العقلية. فهناك هجرة من عوالم "الفراغ الرقمي" إلى مساحات تُنقّب عن المعنى الحرفي للمعرفة، ونرى اليوم نموًا ملحوظًا في المنصات المعرفية كالبودكاست الذي يناقش قضايا فكرية وتاريخية وعلمية راهنة، كبديل للمحتوى السريع الذي يُشبع الذاكرة اللحظية لكنه يستنزف الروح بالتكرار. ومن هنا، يصبح من الضروري أن نعيد النظر في علاقة الأجيال الصاعدة بالتكنولوجيا، بتوجيههم نحو مسارات علمية ومعرفية واضحة، بعيدًا عن الاستنزاف الرقمي للأوقات والعقول في ألعاب الفيديو والمحتوى الفارغ، تحصينًا لعقولهم من التشتّت، وضمانًا لأن تكون التكنولوجيا وسيلة بناء لا وسيلة تدمير. وهذا في حقيقته مشروع رفع وعيٍ ثقافي.